لدينا، كلنا ألف سؤال وسؤال.
من بين ألف سؤال وسؤال هناك سؤال واحد، هو السؤال الأهم، وهو السؤال الأوّل، هو سؤال الفصل، وهو سؤال كل أبجدية سياسية، الآن وفي المستقبل، تماماً كما كان بالأمس، أيضاً.
الإجابة عن هذا السؤال بألف إجابة، وهو مفتاح الإجابة عن الألف سؤال المتبقية.
ولمن يريد أن يفهم فإن الإجابة بسيطة وممكنة، أقول لمن يريد منّا أن يفهم، وليس لمن يصرّ بأنّه لا يريد.
الإجابة تشبه حكاية «ألف ليلة وليلة».
فكما نعرف الليلة الأهم في تلك الحكاية الخالدة كانت هي ليلة سرد الحكاية في تلك الليلة بالذات، والهدف الأكبر والأهمّ كان أن تمرّ الليلة، تلك الليلة بالذات، على «خير»، وكان الهدف الذي أرّق الراوي هو الخير نفسه، الخير الذي لن يأتي إلا إذا مرّت تلك الليلة.
فهل هذا هو حالنا يا تُرى؟
الليلة في «ألف ليلة وليلة»، والسؤال من بين الأسئلة الألف هو: أين نلعب؟ في أيّ ملعب نلعب؟
هذا السؤال موجّه لنا قبل أن يكون موجّهاً للعرب، بل وللعالم كلّه. متى نفهم أولاً أن هذا السؤال هو سؤال فلسطيني؟ ومتى نفهم أن هذا السؤال هو سؤال لن يجيب عنه أحد، لا في الإقليم، ولا في أيّ مكان من هذا العالم قبل أن نجيب نحن عنه.
بل إنّ الحقيقة المُرّة هي أن هذا «الأحد» البعض منهم لا يريدنا أن نجيب عنه، وهو يتمنّى ألا نجيب عنه أبداً، لأنه هو، وهو بالذات، سيفقد كل إمكانية على الهروب والتهرُّب من الإجابة عنه، إن أجبنا نحن عنه، أو أنه ــ أقصد هذا «الأحد» العربي أساساً ــ يتمنّى أن نجيب عنه باستمرار اللعب في الملعب الأميركي، حتى تتوفّر له كل الإمكانيات ليس للعب في الملعب الأميركي، بل وللرقص فيه إذا «سمحت» له الظروف بذلك!
من «حق» الرسمية الفلسطينية أن ترى أنّ اللعب في الملعب الأميركي هو لعب «إجباري»، وأن من شأنه أن «يحمي» الحالة الفلسطينية من العواصف الأميركية، والتي هي جزء من الإعصار الصهيوني الهائج في هذه المرحلة، ولكن من حقنا أن نسأل، أيضاً، تأسيساً على نفس هذا الحق المُعطَى للقيادة الرسمية:
هل اللعب في الملعب الأميركي، في هذه المرحلة بالذات ــ حتى لا نتحدث عن مراحل سابقة أو لاحقة ــ فعلاً يمكن له أن يجنّب الحالة الفلسطينية الخروج الآمن من هذه العواصف ومن هذا الإعصار؟ أم أنّ العكس تماماً هو الصحيح؟
ماذا يمكن أن ننتظر من الأميركان بعد أن شاركوا، بالجلوس في غرفة عمليات جيش الاحتلال لحوالى 500 يوم من حرب الإبادة الجماعية والتجويع والهمجية والتوحُّش البربري، الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري الحديث كلّه؟
وماذا يمكن أن ننتظر من القيادة الأميركية الجديدة التي استهلت عهدها الصهيوني الجديد ليس فقط بالتغطية على كامل جرائم تلك الحرب الممتدة، وإنما بخطّة اقتلاع أكثر من مليوني فلسطيني من قطاع غزّة، وبخلع القطاع من الجسد الفلسطيني، وتحويل أرضه إلى «ممرّات آمنة» لخطوط إمداد، وقنوات، وممرّات لمصالح أميركية تلعب فيها دولة الاحتلال دور الشريك الأوّل، والمقاول الرئيس، والضامن الوحيد؟
وماذا سيكون عليه الموقف عندما تفشل هذه الخطة الأميركية ــ وهي ستفشل حتماً ــ عندما يتقدم دونالد ترامب خلال عدة أسابيع فقط بخطته الجديدة حول توسيع جغرافية «إسرائيل الصغيرة»؟
أين هو مكاننا ودورنا في ضفة سيتم حصارها من الجهات الأربع؟ وسيتم «ضمّ» أكثر من 40% منها في أقلّ التقديرات التي يتم الحديث عنها علناً، وليس في الغرف المغلقة؟
وما الذي سنحميه بالضبط؟ وماذا يتبقّى منّا؟ وماذا يتبقّى لنا، من أي إمكانية للعب أصلاً في أيّ ملعب؟
هل نبحث عن مشهد البقاء السياسي؟
هل نحن بصدد «إثبات» وجودنا السياسي؟
ليكن كذلك! ولكن البقاء السياسي لشعبنا، أو البقاء الوطني لقضيتنا أم أننا نتوسّل البقاء السياسي الشكلي للهياكل السياسية التي نعتقد أنها غير قابلة للتجاوز؟
هناك من يعتقد أن «أوسلو» كان ممرّاً إجبارياً للحفاظ على القضية مقارنة بالعواصف والأعاصير التي أحاطت بهذه القضية آنذاك، وهي عواصف وأعاصير عاتية فعلاً، ولم يكن أقلها التخلي العربي بعد سقوط العراق، والحالة الدولية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتغيّرات كبيرة في كل المجالات الدولية والإقليمية.
فهل أنقذت «أوسلو» الحالة الوطنية، أم أنها تحولت في الواقع إلى عملية إنقاذ للقيادات السياسية أكثر وأكبر بكثير من إنقاذ للحالة الوطنية والقضية الوطنية؟
وإذا كانت «أوسلو» قد أنقذت القيادة الوطنية في حينه ــ وهي قد أنقذت فعلاً ــ فهل اللعب في الملعب الأميركي سينقذ القيادات الرسمية فعلاً، وهل سيكون هذا الإنقاذ إنقاذاً من أي نوعٍ كان طالما أن شروط ترامب، وسياسات دولة الاحتلال ممثلة بـ»اليمين الفاشي» هي نفسها ستنسف أيّ دور للقيادة الرسمية إلّا إذا ارتضت لنفسها بـ»الحصة» الأميركية الصهيونية كما أميركا، وكما تراها دولة الاحتلال، وكما يعبّر عنها نتنياهو بوضوح تام في مقولة (حماسستان وفتحستان) التي لم تعد مجرّد شعارات إعلامية؟!
ونفس الأسئلة من جوانب مقابلة ما زالت توجّه لحركة حماس: ليس من حق أيّ أحدٍ في هذا العالم إبعادكم عن دائرة الفعل والتأثير السياسي، وليس من حق أحد أن يطلب منكم التخلّي عن سلاحكم أو دوركم، لكن أليس من حق الشعب الذي حماكم، والذي قدّم أكثر ممّا قدّمه أيّ شعبٍ آخر، من تضحيات، والذي صمد على أرضه أكثر ممّا تقوى عليه الصخور؟! أليس من حقّ هذا الشعب أن يطلب منكم حمايةً لكم، ولدوركم أن تقدّموا كل «التنازلات» الممكنة لرأب الصدع الداخلي، والقبول بدورٍ خلفي مؤقّتاً لإعادة دورة الحياة إلى القطاع، ولإعادة دورة الحياة إلى وحدة الأرض والوطن والقضية؟ وأنتم تعرفون حقّ المعرفة أن البعبعة الإسرائيلية هي بعبعة فارغة طالما أنّ الشعب الفلسطيني متماسك وموحّد في وجهها، وأنّ الموقف العربي نفسه لن يتمكّن من تجاوزكم طالما أنتم جزء منخرط ومنصهر بالنظام السياسي، وتحت راية، وفي كنف هذا النظام، على علّاته، وعلى كلّ نواقصه؟
بادروا، وعلى الفور، ولن تخسروا شيئاً إذا أعلنتم أنكم على استعداد تام للقبول بما يقبل به النظام السياسي الفلسطيني من أسس ومرتكزات للشرعية الدولية ــ مهما ترونها مجحفة ــ لأنّ هذه المبادرة، وهذا القبول هو مفتاح إجهاض الحلف الأميركي، والحل الأميركي، ومفتاح إحراج العرب، وإخراجهم من اللعب في الملعب الأميركي، أو اللعب الكامل والتام في هذا الملعب.
دولة الاحتلال عجزت عن «الانتصار»، وأميركا تحاول التغطية على فشلها ليس أكثر، والقصة والحكاية اليوم، والآن ليست سوى كيف نمضي الليلة في حكاية «الألف ليلة وليلة».
عندما تمرّ العاصفة لا يتبقّى في الوادي سوى الماء الصافي، وسوى حجارته الصلبة والرّاسخة المضيئة.
أخرجوا من ذهنية البحث عن دور القيادات، وفتّشوا عن وسائل الإبقاء على ما تم إنجازه من وهج للقضية، وما تم تحقيقه من إنجازات تفوق كل إنجاز، بأن عادت فلسطين إلى حيث كان يجب أن تعود. وهذا هو الجواب عن كل سؤال.