يبدو أنّ الولايات المتحدة الأميركية قد "اقتنعت" أخيراً بأنّ القيادة السياسية في دولة الاحتلال لن تسلّم بالحقائق والوقائع التي أفرزها ميدان الحرب الطويلة، كما يبدو أنّ "الأميركان" قد شعروا هم، أيضاً، أنّ مثل هذا التسليم سيعني الهزيمة، بصرف النظر عن كل ما قامت به دولة الاحتلال من إجرام وقتل وتدمير وترويع وتجويع، وأنّ أيّ إشارةٍ إلى هذه الهزيمة سيعني تدحرج أوضاع الإقليم، وربما بصورة متسارعة نحو الحدّ الكبير من سطوة الولايات المتحدة في كامل الإقليم، إن لم نقل تدهور مكانتها بالكامل، وخصوصاً الانسحاب من سورية والعراق.
وفي ظنّي أنّ وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، حتى بنصف الشروط التي طرحتها المقاومة كان سيعني من الناحية العملية المباشرة بقاء قوة "محور المقاومة" سيفاً مسلّطاً على رقبة الاحتلال، وبقاء حركة حماس في القطاع، بصرف النظر عن شكل وجودها وتواجدها وأسلوب التعبير عن دورها، ما يعني في نهاية المطاف أنّ دولة الاحتلال في ضوء نتائج هذه الحرب الإجرامية ستعيش أعلى درجات انعدام الأمن فيها منذ قيامها، ناهيكم أنّ تهديد أمنها لأسباب داخلية يتبيّن الآن أنّه واحد من أخطر ما يواجهها.
وكان الاعتقاد السائد هو أنّ الولايات المتحدة لن تجاري دولة الاحتلال في مرحلة حسّاسة من الانتخابات، ليتبيّن الآن أنّ التنافس الانتخابي على مقدّرات "الإيباك" التصويتية والتمويلية بات مهمّا للغاية، خصوصاً بعد أن تخلّص "الديمقراطي" من الهزال الانتخابي للرئيس جو بايدن، وبعد أن تأكّد "للدولة العميقة" الأميركية بأنّ حظوظ كامالا هاريس باتت أكثر من معقولة.
وعليه، فقد تمّ في الزيارة الأخيرة لنتنياهو إلى واشنطن الاتفاق على أن تقوم إسرائيل بعدة "ضربات" تشكّل في مجموعها ومجملها صورة للردع، طالما أنّ استعادة الردع نفسه لم يعد ممكناً على الإطلاق.
وهكذا فإنّ ما قامت به دولة الاحتلال، بموافقة الولايات المتحدة من اغتيالات، وبهذه الصورة "المدوّية"، وهي مدوّية فعلاً، إنّما هو إحداث صدمة كبيرة، صاخبة ومدوّية من صورة الردع المفقود، حتى ولو أدّى ذلك إلى جولة من التصعيد الكبير، وبما في ذلك عمليات كبيرة من التدمير، والتدمير المقابل ليتسنّى ــ بعد ذلك ــ للولايات المتحدة، ولدولة الاحتلال الحديث عن "تسوية"، لمنع تحوّل الحرب من حرب على مدى عدّة أيام، وعلى أبعد الحدود، لعدة أسابيع تسبق الانزلاق الشامل للحرب الشاملة، التي ستعني إن تمّ الدخول فيها الانتقال من تدمير البُنى والمؤسسات والمعسكرات والمواقع إلى تدمير جماعي قد يشتمل على مدن كاملة، وقد يصل إلى مئات الآلاف من الضحايا، وربما الملايين، أيضاً.
سياسة الاغتيالات "المدوّية" هذه سلاح ذو حدّين، فإذا استطاعت الولايات المتحدة في سعيها لتوفير صورة قوية من الردع، للاستعاضة عن الردع المفقود، وإذا تمكّنت من "لجم" "محور المقاومة"، و"تقنين" ردوده على هذه الاغتيالات، فمن المؤكّد أنّ وقفاً لإطلاق النار في القطاع سيكون سريعاً، وربما خلال فترة أقرب مما نتصوّر.
أما إذا ردّ "المحور" على هذه الاغتيالات بقوة "تجبُّ" كل آثار الصورة التي كان يبحث عنها نتنياهو بتفويض أميركي فإنّ حرباً مفتوحة، لا يملك أحد في هذا العالم القدرة على التحكّم بها، وإبقائها في هذه الدائرة، ومنعها من الانتقال إلى الحرب الشاملة.
في مسألة الحروب، وتحوّلاتها في العقود الأخيرة إلى أشكال وأساليب غير معهودة هناك نقاشات نظرية على أعلى درجات الأهمية والعُمق.
فقد انتهت في عُرف "الغرب" كلّه السقوف والحدود والاعتبارات الإنسانية، وتحوّل القتل الجماعي إلى سياسة "مقبولة" طالما أنّ مصالح هذا "الغرب" باتت تقتضيها، والإعلام بات قادراً على تسويق كلّ شيء بما في ذلك الخداع والتضليل والكذب والافتراء، والاختلاق والتمثيل والمسرحة، وكلّ ما يخطر، وما لا يخطر على أيّ بال. ولم تعد القوة الغاشمة التقليدية هي التي تحسم هذه الحروب.
فمقابل الطائرات، باتت الشعوب تمتلك صواريخ موجّهة، وباتت لديها المُسيّرات، وباتت لديها معارف تقنية عالية تستطيع من خلالها إدارة الحروب والمعارك بصورةٍ تؤلم الخصم، وتؤذيه، والأهم تتفوق عليه في القتال المباشر.
وبهذه المقاييس الجديدة التي طرأت على مفهوم الحروب تجد الولايات المتحدة، وتجد إسرائيل كذلك صعوبة فائقة في حسم الحروب الحديثة، وهذا بالضبط ما يفسّر عجز وإخفاق دولة الاحتلال في حسم المعركة أو الحرب منذ عشرة شهور، وضد قوى ومنظمات وليست دولاً كبيرة، وبات الانتصار مستحيلاً إذا كانت هذه القوى مصمّمة على التصدّي والصمود والتضحية، والدفاع عن مصالح شعوبها.
وعندما تخفق القوى الاستعمارية ــ هكذا كان الأمر دائماً ــ في تحقيق أيّ نصر، فهي لا تملك سوى القتل والتدمير والإجرام.
هكذا كان الأمر في العراق، وفي سورية، وفي ليبيا، وفي السودان الآن، وهكذا كان الأمر في اليمن وفي الصومال، وهكذا كان الأمر في كلّ مكان وصلت يد "الغرب" إليه، ليس الآن فقط، وإنّما في كامل التاريخ الاستعماري لهذا "الغرب".
من لا يمكنه ربح الحرب كما هو حال دولة الاحتلال، وكل داعميها لا يملك سوى أن يجرّب حظّه.
مشكلة دولة الاحتلال أنّ لديها قيادة متطرّفة وعنصرية، وباتت الأيديولوجيا الفاشية هي التي تسيّرها، ما يعني أنّ الفواصل بين المغامرة، والمغامرة المحسوبة والمقامرة ــ والتي هي شعرة صغيرة أصلاً ــ عائمة ومعوّمة.
وبالعودة إلى تفاصيل نمط الحروب، والمعارك التي خاضتها الفاشيّات قديمها وحديثها يتبين بوضوح تام لكل باحث جاد أنّ هذه الحدود الشاملة بين المغامرة والمقامرة كانت هي السمة السائدة، وكانت سياسة تعويم هذه الحدود هي المحدّدات الفاصلة والفارقة في سلوكها.
وكلّ فاشيّات العالم، القديمة والحديثة كانت دائماً أسيرةً لمفهوم الحسم بالاستناد إلى القوة الغاشمة، وظلّت حبيسة الشعور بالقدرة الكلية الحاسمة المدمّرة قبل أن يبتلعها التاريخ، وقبل أن تتحوّل إلى مخلّفات منبوذة في الأركان المعيبة من متاحف الحضارة الإنسانية الحقّة.
سيتعيّن على دولة الاحتلال أن تجهّز نفسها للأسوأ في تاريخها كلّه، وأظنّ أنّ ثمن الحماقات سيكون أعلى بكثير من ثمن الصورة التي تبحث عنها، والتي لم تتحقق بعد، وما زالت على قائمة الانتظار.
وأظنّ، كذلك، وليس كلّ ظنّ إثما أنّ دولة الاحتلال أخطأت بهذه الحماقات الأخيرة عندما لم تحسب بما يكفي من الدقّة درجة الهشاشة في مجتمعها، ومدى ما وصل إليه هذا المجتمع من تهتُّك وصراع فات أوان حلّه، وتجاوز الواقع الإسرائيلي القدرة على إصلاح أحوالها.
أمّا الخطأ الثاني في الحسابات المتسرّعة فأظنّ أنّ دولة الاحتلال ليست مدركة بعد أن "أعداءها" باتوا يعرفونها جيداً، وباتوا يعرفون نقاط قوّتها وضعفها، وباتوا يعرفون ما يملكون من مكامن القوة لكيفية إلحاق الهزيمة بها.
وأمّا الثالث، وهو الأخطر فإنّ دولة الاحتلال تراهن على دعم خارجي مهما كان قوياً الآن فإنّه سيبيعها في سوق المفرّق إذا ما رأى بأنّها ليست تجارة رابحة، وقد تصل فيه الأمور إلى بيعها بالجملة إذا لزم الأمر.
راكمت دولة الاحتلال في العقود الأخيرة، وفي الشهور العشرة الأخيرة ما يكفي من الكراهية لها ولأفعالها بما يكفي لعقود كاملة.
وهذا الأمر بالذات سيعني قطع الطريق على يهود دولة الاحتلال بالعيش والتعايش المشترك في هذه المنطقة، وهذا بحدّ ذاته إجرام بحقهم في الحياة، وإمعان في زجّهم المتواصل في معمعان حروب يستحيل ربحها في هذه المنطقة.
التصعيد الإسرائيلي الأميركي تحدث عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل حادث مجدل شمس، ويقال، إنه استدعى الرئيس السوري بشار الأسد على عجل لهذا الأمر، ما يعني أنّنا أمام معلومات وليس توقعات، وأظنّ أنّ هذه المسألة، أيضاً، كانت خارج الحسابات الإسرائيلية والأميركية، وهنا لا بدّ من عودة.