الكوفية:"احذروا الموت الطبيعي، ولا تموتوا إلا بين زخات الرصاص".. كلمات رحل صاحبها بعيدا لكنه لم يغيب يوما عن الأذهان، بيد أن كلماته شكلت خيوطا من نور تبعث الأمل في نفوس كل عشاق الوطن.
واليوم.. يحيي الفلسطينيون الذكرى الـ51 لاستشهاد الأديب والروائي الفلسطيني غسان كنفاني، الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي، بوضع عبوة ناسفة في سيارته الخاصة يوم السابع من يوليو لعام 1972، لتبقى ذكراه خالدة في ذاكرة الفلسطينيين، بعد خمسة عقود على رحيله، حيث ترك إرثا ثقافيا وأدبيا ووطنيا ممزوج بعبق التاريخ الإنساني لحكاية شعب ما زال يرزح تحت الاحتلال، حيث ظل متمسكا بخيوط الحلم والأمل في العودة وتقرير المصير ووطن حر مستقل رغم المؤامرات الكبيرة التي تستهدف عدالة القضية الفلسطينية.
ولد غسان كنفاني يوم 9 أبريل 1936 في عكا لعائلة متوسطة الحال، والده كان محاميا، شهد وهو طفل نكبة 1948، وهرب على إثرها مع عائلته سيرا على الأقدام إلى المخيمات المؤقتة في لبنان، ومنها انتقل إلى العاصمة السورية دمشق.
التحق بمدرسة الفرير في مدينة يافا حيث تعلم الإنجليزية وأتقنها، وخالف طموح والده لأن يصبح تاجرا فاتجه إلى عالم الأدب، ونال إجازة في الأدب بقسم اللغة العربية من جامعة دمشق، وكانت الرسالة التي قدمها بعنوان "العرق والدين في الأدب الصهيوني".
بعد انتقال العائلة إلى دمشق اضطر كنفاني للعمل في عدة مجالات، منها موزع صحف وعامل في مطعم، واشتغل مدرسا في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين بدمشق لمادتي الرسم والرياضة، ثم سافر إلى الكويت عام 1955 وعمل في التدريس، وفي عام 1960 انتقل للعمل في بيروت بصحيفة الحرية التابعة لحركة القوميين العرب.
اهتم كنفاني بالأدب وهو في سن الشباب، وكتب القصة القصيرة في عمر الـ19، وبعد انتقاله إلى بيروت وجد لنفسه مكانا بين المثقفين والأدباء، وحصل على الجنسية اللبنانية ولمع اسمه في عالم الكتابة.
ويعتبر كنفاني أحد أشهر الكتاب والصحافيين العرب في القرن العشرين، فقد كانت أعماله الأدبية من روايات وقصص قصيرة متجذرة في عمق الثقافة العربية والفلسطينية، وكرس كتاباته لنقل معاناة الفلسطينيين في الشتات، وكان يؤكد فيها أن اللجوء في المخيمات ليس حلا للشعب الفلسطيني، ففي روايته "موت سرير رقم 12" كتب كيف يتحول الغرباء إلى أرقام بالمنافي، ويعيشون حالة الوحدة دون التفكير في حل جماعي بالعودة، "فهم لم يكونوا يشعرون بالانتماء، والآخرون لم يشعروهم بأنهم عرب".
ترجمت معظم أعمال غسان الأدبية الى 17 لغة ونشرت في 20 دولة مختلفة، وتم إفراغ بعض رواياته في قالب مسرحي قدم في والإذاعات وعلى المسارح في كثير من الدول العربية والأجنبية، بين عامي 1983 و1986 تم اختيار أربع روايات وقصص قصيرة من أعمال كنفاني لنقلها إلى اللغة الألمانية.
في العام 1992 ترجمت إلى الألمانية الرواية الشهيرة "العودة إلى حيفا"، وفي العام 1994 ترجمت رواية "أرض البرتقال الحزين"، فيما كانت رواية "رجال في الشمس" الأولى التي تم نقلها إلى اللغة الإنجليزية في السبعينيات وصدرت عن دور نشر في إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، ثم نقلت الرواية نفسها وخلال السنوات العشرين الماضية إلى 16 لغة، وغيرها من الروايات والأعمال الأدبية، اثنتان من رواياته تحولتا إلى فيلمين سينمائيين.
لم يكن كنفاني أديبا فقط، بل كان مناضلا من أجل قضيته فلسطين، وظهر التوجه المقاوم لديه منذ طفولته، ورافقه في كل أعماله الأدبية وحياته الشخصية.
انضم إلى حركة القوميين العرب وكتب في المجلات التي كانت تصدرها في دمشق والكويت، وبعد عام 1969 ازداد نشاطه السياسي فأصبح عضوا في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد عرف عنه أنه لم يكن منضبطا في العمل الحزبي أو يشارك في الاجتماعات لكن دوره السياسي كان أساسيا، فقد ساهم في وضع الاستراتيجية السياسية والبيان التأسيسي للجبهة الذي أكد على أهمية العمل الفدائي والكفاح المسلح.
وفي سبتمبر 1970 أجبرت مجموعة من الجبهة الشعبية ثلاث طائرات على الهبوط في مطار "دوسن فيلد" العسكري بمنطقة صحراوية في الأردن كانت سابقا قاعدة جوية بريطانية وقامت باحتجاز 310 رهائن للمطالبة بإطلاق صراح ليلى خالد والمعتقلين الفلسطينيين في إسرائيل، وقد كان كنفاني في واجهة الحدث كونه المتحدث باسم الجبهة الشعبية حينها.
اغتيل كنفاني من قبل الموساد الإسرائيلي في 8 يوليو 1972 بانفجار سيارة مفخخة في العاصمة اللبنانية بيروت، وبحسب نتائج لجنة التحقيق التي شكلتها الجبهة الشعبية فقد نتج الانفجار عن عبوة ناسفة قدرت زنتها بتسعة كيلوغرامات وضعت تحت مقعد السيارة وانفجرت عند تشغيلها.
لم يرحل غسان كنفاني في صمت، لكنه رسم باستشهاده الطريق الصحيح بعدما أيقن أننا نعيش في عالم ليس فيه مكان للضعفاء لذلك سعى الإسرائيليون لقتله وإخماد صوته الذي لا يزال بعد 51 عاما من استشهاده يشكل محورا هاما في الحكاية والرواية الفلسطينية، ومصدر إلهام لكل الادباء والمثقفين والروائيين.