حتّى تكون قراءة اجتماع الجزائر قراءة صادقة، وتتوخّى الدقة والموضوعية، لا بد أن تبدأ ـ كما أرى ـ من الأسباب التي جعلت من بلد عربي عُرف على الدوام بوقوفه إلى جانب الحق والكفاح الفلسطيني، ليس على المستوى الرسمي فقط، وإنما على المستوى الشعبي الكاسح أيضاً يبادر «الآن» لعقد هذا الاجتماع.
الجزائر شأنها في ذلك شأن دول عربية أخرى لم تكن غافلة عن حالة الانقسام على مدى أكثر من عقد ونصف العقد من الانقسام، وهي لا بد أنها ـ وهنا أيضاً مثل بعض الدول العربية الأخرى ـ لاحظت، بل وربما تيقنت من أن هذا الانقسام بات «يسابق» الزمن باتجاه الانفصال، أو على الأقل، لا بدّ أنها لاحظت أن هذا الانقسام يتمأسس يوماً بعد يوم، ويبني من حوله شبكة معقّدة من المصالح والامتيازات والعلاقات، بما أفضى إلى ارتباطات وتمحورات وأجندات تحول الانقسام بسببها وكذلك بنتيجتها إلى شأن يتجاوز شروطه المحلية أو الداخلية، ويتحول موضوعياً باتجاه الأبعاد الخارجية الضاغطة والمؤثّرة في تحديد مساره، وفي ديناميكيات مجمل التفاعلات السياسية، وكذلك الاقتصادية والاجتماعية، بل حتى الثقافية التي تتحكم بهذا المسار، إن كان لجهة قوة الدفع أو التأثير، أو لجهة وتائر الحركة صعوداً وهبوطاً، حسب محصلات الفعل المتبادلة بين أطراف معادلة الداخل والخارج، أو المحلي والإقليمي الدولي على حد سواء.
معظم العواصم العربية حاولت أن تساهم في إنهاء هذا الانقسام، وأمامنا وبين أيدينا سلسلة طويلة منها، بدءاً من الرياض، ومروراً بصنعاء والقاهرة وعمان، ثم الدوحة وبيروت وصولاً إلى موسكو وإسطنبول، ولم يتبق سوى بروكسل أو فيينا أو حتى واشنطن..! من يدري؟ حاولت ولم تنجح، بعضها حاول وضغط، وبعضها انسحب واستنكف، ولم يتبق حزب سياسي عربي يناصر أو يلتحم بالكفاح الفلسطيني إلاّ وحاول، وحتى بعض البلدان الأوروبية حاولت، وبعض الأصدقاء من آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية هم أيضاً حاولوا... والنتيجة إما الصفر أو دونه.
فهل سيكفي حُبّ الجزائر لفلسطين، وحُبّ فلسطين للجزائر لإنهاء الانقسام؟
هذه حقيقة أولى.
وأما الحقيقة الثانية، فهي أن الجزائر الشقيقة رأت وهي تحاول إنجاح القمة العربية القادمة في عاصمتها أن تقوم بهذه المحاولة من باب «لعلّ وعسى»، بدليل أنها بدأت بالتشاور الفردي مع الفصائل في مؤشر على «جسّ النبض»، وحتى لا تمُنى بالفشل، ويسجّل عليها مثل هذا الفشل المتكرر وهي تسعى إلى «لملمة» حطام المؤسسات العربية المشتركة، وكذلك وهي ترى حالة غير مسبوقة من التشظي العربي على غرار حالة التشظي الفلسطيني.
هذا يعني في الواقع ـ بصرف النظر عن كل النوايا الطيّبة ـ أن المسألة وما فيها ليست أكثر من واجب لا بدّ منه، أو من محاولة بالرغم من كل حسابات الصعوبة فيها.
وأما الحقيقة الثالثة فهي أننا بعد أكثر من «15» سنة ما زلنا عند مربع من أين نبدأ. هل نبدأ من ملف السلطة أو من ملف المنظمة، وهل نحن مع الشرعية الدولية أو ضدها، وهل مع الانتخابات أو ضدها، وهل نحن مع الاتفاق حول "انتخابات القدس" أو ضدها، وهل نحن مع برنامج توافق وطني "برنامج حد أدنى وقواسم مشتركة كبرى" أو ضدها، وهل نحن مع الصواريخ أو ضدها، وهل نحن مع المقاومة الشعبية أو ضدها؟
وحتى لو أننا نتوافق حول هذا البند أو ذاك نظرياً، وإعلامياً، فإن لدينا ما يكفي ويفيض ويزيد «للاختلاف» إلى درجة التخوين وإلى حدود الشتائم، وإلى ما هو أبعد من حدود الأساليب المفترضة في أي علاقات وطنية.
هذا يعني باختصار استحالة إنهاء الانقسام لأن الأمر يتطلب «الاتفاق والتوافق» على كل شيء تقريباً، في حين أننا لسنا على أي درجة حقيقية من هذا التوافق والاتفاق على أي شيء من كل هذا!
فالذين يرون أن الحل السحري موجود في الصفقة الشاملة أو الرزمة الكاملة لديهم نفس مشكلة وأزمة من يعتقدون أن بالإمكان «التوافق والاتفاق» على بعض هذه الخلافات والاختلافات لإنهاء هذا الانقسام.
فكيف لأي عاصمة عربية حتى لو كانت الجزائر أن تحل هذه الأحجية، التي ينطبق عليها كل أشكال الأمثال الشعبية، من الدجاجة والبيضة، إلى إبريق الزيت، وصولاً إلى الدبس والنمس وما بينهما!
وأما الرابعة فهي أن معظم العاملين على الانقسام لديهم ما يكفي من «الأسباب والحجج والذرائع والمبرّرات» كزوّادة يحملونها على أكتافهم لكي يلقوها في وجوهنا في أي لحظة حاسمة للتخلص من الانقسام، وهم في الواقع يضحكون في داخلهم على مدى السذاجة التي تحكم أفكارنا ورؤيتنا ورؤانا! ذلك أننا لا نمتلك شجاعة القول والموقف، وهو أن أهم عامل وسبب يقف وراء الانقسام هو إسرائيل. وأن أهم نجاح حققته إسرائيل، وهو بمثابة اختراق استراتيجي كبير كان الانقسام، وأن هذا الانقسام الذي دشّنه الانقلاب الذي قامت به حركة حماس (بصرف النظر عن مقدماته ومسؤوليات ما قبله)، وتطور بحيث أصبح صراع «السلطات» مرهوناً بصورة مباشرة أو غير مباشرة بدرجة اللعب بهذه الورقة من قبل إسرائيل، وبحيث بات الهم الأول لكل سلطة هو تكريس نفسها في هذه المعادلة سواء تعارض هذا الهمّ مع الحقوق والأهداف الوطنية أم توافق معها، وبحيث أصبح «الصراع» ضد إسرائيل محكوماً من الناحية الموضوعية بحسابات هذه المعادلة أولاً وقبل أي حسابات أخرى وأكثر من أي معادلات أخرى.
هذه هي الحقيقة المُرّة التي وصلنا إليها.
فمن أين لأحدٍ أن يتمكن من فك طلاسم هذه الحالة السوريالية، وكيف للجزائر أو غيرها أن تتصدى بنجاح لمهمة كهذه؟
وأما الحقيقة الخامسة فإن «الانقسام» على مستوى الشعب هو عرضي، ومؤقت لأن الانقسام على مستوى المؤسسات السياسية والحزبية هو الأساسي، وهبّة الشيخ جرّاح، وهبّة برقة وقبلها بيتا، وهبّة «النقب» الآن كفيلة بتبديد كل التلوّث البيئي الذي نشأ عن صراع الانقساميين، ومخططات اليمين في إسرائيل والتي حوّلت الترحيل والتطهير العرقي والتهويد والتهام الأرض إلى جدول الأعمال السياسي المباشر، في الوقت الذي تحول فيه الهدف الأعلى للانقساميين إلى زيادة الفتات من أجل رفع مستوى الكفاف.
ولهذا فإن الحقيقة السادسة هي أن لا علاقة حقيقية، وطنية واضحة وصريحة ما بين كل الادعاءات حول الخلافات والاختلافات في الحالة الوطنية وبين حقيقة الصراع الحقيقي بين كل أنواع الانقساميين، وسنرى كيف أن كل الخلافات والاختلافات، وكل الادعاءات بشأنها ستنهار انهياراً مدوياً عند أول منعطف تاريخي جديد من مستوى تحول الحالة الوطنية الشعبية المقاومة إلى فعل وطني منظم وشامل.
فمن فهم الواقع القادم فقد أمن على نفسه، ومن تأخّر فقد خسر السباق، ومن عاند وكابر فليس أمامه إلا السقوط.