أيّ حماس بعد الحرب؟ الانتخابات الداخلية ومعركة البقاء السياسي
نشر بتاريخ: 2025/12/31 (آخر تحديث: 2025/12/31 الساعة: 15:15)

تُجري حركة حماس انتخابات داخلية في لحظة تُعدّ من أقسى اللحظات التي مرّ بها قطاع غزة في تاريخه الحديث، وفي ظل كارثة إنسانية غير مسبوقة طالت الإنسان والحجر، ودمّرت ما تبقّى من مقومات الحياة. انتخاباتٌ تأتي مثقلة بدلالات سياسية وتنظيمية عميقة، وسط ترقّب واسع بأن يُفضي التغيير المنشود إلى مستوى يتناسب مع حجم المأساة، لا أن يكون مجرّد إعادة إنتاج للواقع ذاته، أو استمرارًا في سياسة المكابرة وتجنّب الاعتراف بحقيقة ما جرى.

لقد أثبتت الشهور الماضية أن كلفة الحرب لم تكن عسكرية فحسب، بل كانت اجتماعية واقتصادية وسياسية بامتياز. فالمجتمع الغزّي، بما فيه القاعدة الشعبية لحماس نفسها، بات يرزح تحت أعباء تفوق قدرته على الاحتمال. ومن هنا، فإن الرهان على الانتخابات الداخلية يفترض – نظريًا – أن تكون مدخلًا لمراجعة شاملة، تفتح الباب أمام نقاش جاد في السياسات والخيارات، وتمنح الفرصة لتلاقح البرامج والأفكار، وإعادة ترتيب الأولويات على قاعدة المصالح الوطنية العليا.

غير أن الواقع، للأسف، يشير إلى أن هذه الانتخابات تُجرى في ظروف أمنية وتنظيمية بالغة الصعوبة، تجعلها أقرب إلى التزكية والترتيبات الخلفية منها إلى منافسة ديمقراطية شفافة. وهو ما يحدّ كثيرًا من الآمال المعقودة عليها، ويطرح تساؤلات مشروعة حول قدرتها على إحداث اختراق حقيقي في بنية القرار داخل الحركة.

في جوهر المشهد، تعيش حماس حالة استقطاب داخلي بين رؤيتين واضحتين. الأولى ما تزال أسيرة خطاب السابع من أكتوبر، وتتعاطى مع ما جرى بوصفه لحظة نصر رمزية، دون التوقف الجدي عند تداعيات حرب الإبادة على شعبنا في غزة، أو مساءلة الكلفة الإنسانية والسياسية الهائلة. رؤية تستثمر في الخطاب التعبوي، لكنها تعجز عن تقديم إجابات واقعية لأسئلة “اليوم التالي”، أو عن رسم أفق سياسي يخفف من عزلة غزة وحصارها.

أما الرؤية الثانية، فهي أقل صخبًا وأكثر قلقًا على ما تبقّى من الإرث النضالي والتاريخ السياسي للإسلاميين في فلسطين. أصحاب هذه المقاربة يقرّون، ولو ضمنيًا، بأن التعجّل في المواجهة جرى دون حساب دقيق للمآلات، ويتطلعون إلى تغيير ينقذ الحركة من العزلة، ويعيد ترتيب أولوياتها بما يتناسب مع موازين القوى الحقيقية، لا المتخيّلة.

ما يتطلع إليه عقلاء حماس وكوادرها، وخصوصًا من جيل الشباب، هو قيادة تمنح الحكمة والواقعية السياسية مساحة أوسع في اتخاذ القرار، وتعيد الاعتبار لمبدأ التشاور الجماعي بدل احتكار القرار. قيادة قادرة على مراجعة الخطاب السياسي، وتحسين العلاقة مع المحيط العربي والإسلامي، ولا سيما مع دول محورية كالسعودية والإمارات، والانفتاح الجاد – لا الشكلي – على الغرب، في ضوء التحولات الكبيرة التي طرأت على الرأي العام الأوروبي والأميركي، وحالة التعاطف غير المسبوقة مع المظلومية الفلسطينية، وصولًا إلى اعتراف عدد من الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية.

في هذا السياق، لا يمكن تجاهل ما تداوله الإعلام الإسرائيلي والغربي مؤخرًا حول “صراع القوة الصامت داخل حماس”، والذي يرى أن الانتخابات الداخلية المبكرة، وإعادة تشكيل مجلس الشورى والمكتب السياسي، ليست مجرد إجراءات تنظيمية، بل محاولة لإدارة شرخ داخلي عميق بين قيادة غزة التي دفعت ثمن الحرب، والقيادة الخارجية. كما يعكس الإفراج عن رهائن إسرائيليين، والاعتراف غير المسبوق بمقتل قيادات بارزة، إدراكًا متزايدًا داخل الحركة بأن العزلة والميل إلى العسكرة المطلقة باتا يشكّلان تهديدًا وجوديًا لحماس نفسها.

وفي الإعلام، يجري الحديث عن شخصيتين تتنافسان على قيادة المكتب السياسي، لكلٍّ منهما تاريخه وخطابه وعقليته السياسية. وقواعد الحركة، كما الرأي العام الفلسطيني، قادرة على التمييز بين من يملك استعدادًا حقيقيًا لإدارة مرحلة التغيير، ومن يميل إلى الحفاظ على المسار التقليدي بكل ما يحمله من مخاطر في هذه اللحظة الحرجة.

إن حماس اليوم تقف عند مفترق طرق حاسم: إما أن تنخرط في مسار واقعي يعيد تموضعها كشريك سياسي في المشروع الوطني الفلسطيني، ويساهم في إفشال مخططات التهجير القسري التي تتبنّاها حكومة الاحتلال وحلفاؤها من اليمين المتطرف، أو أن تستمر في الدوران داخل حلقة العزلة والاستهداف والحصار، بما يهدد وجودها السياسي، وربما التنظيمي.

من جهتي، أرى أن الواقعية السياسية ليست تنازلًا عن الثوابت، بل طوق نجاة من الإقصاء والعزلة، ومدخلًا للحفاظ على حماس – وعلى غيرها – جزءًا فاعلًا في معركة حماية القضية الفلسطينية ومستقبل الوجود الفلسطيني على أرضه. أما نتائج هذه الانتخابات، فستبقى المؤشر الأوضح على الاتجاه الذي اختارته الحركة… وإلى ذلك الحين، تبقى الأسئلة مفتوحة، والإجابات مؤجّلة.