من يُكمل القصيدة؟
نشر بتاريخ: 2025/12/13 (آخر تحديث: 2025/12/13 الساعة: 22:22)

هل سننتظر طويلاً للمرحلة الثانية من تنفيذ اتفاقية وقف الحرب على غزة؟ أم سنكون فيما يُسمى بداية لبداية، يتجول فيها الزمن إلى زمن يطول؟

كانت تتمشى في بحر الشاطئ، كأن شيئاً لم يحدث هنا على البرّ، مُمسكةً بساعد طفلها ابن العامين أو أقل، وهو المندهش جداً بهذا السائل الكبير؛ ولا يدري هل ترفّه أمُه عنه ليسعدَ بالبرودة في يوم حار، أم أنها تدرّبه على خوض غمار البحر!

«بقي لي هذا البحر، وهو كبير

فهنا ما لا يعدّ من موج، ولا يعدّ من مدّ

ولا يعدّ من جزْر

هنا نسبح أيضاً، بثيابنا لا يهمّ

وهنا متسع لبناء بيوت رملية للأطفال

فهات بعضاً من ملحك، من سمكك، من برودةٍ في يومنا الحارّ

لعله برد ولعله سلام

تثني شمس المغيب في أصيلها فيصير الشط ماساً

واسعة جداً السماء فوقنا وأمامنا.

في الصورة، هناك ما يوحي على أن اختيار البحر كان من الطفل، حيث يبدو مندفعاً فيه، في حين تقف الأم ممسكةً به حتى لا يقع، وفي الوقت نفسه كأنها تكبح جماحه في الاندفاع داخله.

هو ينظر بكامل الدهشة نحو البحر، فيما تبقّى من ضوء، أما هي فتسقط نظارتها عليه، بحكم الفرق في الطول، وكأنها بنظرتها اختزلت كل مشاعر البشر من أمل.

يمشي الطفل كما يبدو، ويود إكمال المشي، في حين لم تطلق الأم يدها الى جانبها وجانبه، بل رفعك ذراعها، كأنها ترفعه حتى لا يقع داخل الماء.

تقف الأم-المرأة بثبات، غير منتبهة لعدسة المصوّر ولا لعيون الناس المشغولين بحالهم عمن سواهم، فكثيرة الصور هنا والكاميرات، وكثيرة الأقمار التي ترصد، وقليل قلب العالم الرائي والعقل.

ولكن ليس بالشعر وحده يحيا النازحون واللاجئون والمصابون والباحثون عن الدفء والخبز والماء، فماء البحر مالح، يحمل كل الطعوم غير المستساغة. ليس بالشعر ولا الأدب ولا الفن ولا الصحافة، بل من المضي الجاد في الاتفاقية بما يأخذنا للجوهر لا للتفاصيل في هذه اللحظة من البرد والريح والمطر، والمطر السواحليّ كثيف كثير.

ربما لا نحتاج الآن من يُكمل القصيدة، أو ينثرها، أو يرسمها، أو يلتقط صوراً أخرى بكاميرته، فالأمهات عابرات البحر مع أطفالهن كثيرات، بقدر ما نحتاج الى الإسراع بل تسريع الإغاثة؛ فما زال شعبنا في القطاع بمعظمه بحاجة الى أبسط عناصر الحياة ومتطلباتها.

في الآونة الأخيرة، لم نقرأ عن الإغاثة، بقدر ما نتابع بألم عن شروط الغزاة، فكيف يتم ربط الإغاثة بإعادة الموتى، (أو بالميّت الأخير)؟ وهل لا بدّ من موت الناس برداً حتى تكتمل أمور الحرب والسلام؟

على البرّ، تماماً عند انتهاء شاطئ البحر حيث الآباء والأمهات وأطفالهم وكبارهم، يتسع المكان مقابل هذا الساحل الغزيّ-المتوسط الجميل والمعتدل، يفتح البرّ فمه للإعمار؛ فالبرّ-الأرض لا تكتمل وحدها، بل بالشجر والبشر والحجر.

«الحِمل إذا توزع بنشال»!

رحم الله والدتي التي لم تزهد يوماً في ترديد هذا المثل الفلسطيني العجيب والساحر، والذي من خلاله عبر شعبنا تحديات كثيرة، أسريّاً ووطنياً.

طفل، لم أكن أعرف معنى المثَل الذي يتردد على سمعي، ثم صرت أتأمل في كلماته، فما عرفت لا الحِمل، ولا الذي ينشال. عرفت فقط معنى التوزيع، ربما من توزيع المعلمين للطلاب في مدرستنا الصغيرة. ثم صرت أسمع والدي الذي يتحدث عن حِمل العنب وحِمل الحبوب، وأحمال المنتوجات الزراعية، ومع كلمة بعض الأهل بصيغة الأمر: شيلوا، صرت بهذا التدرج الدلالي أقارب الفهم إلى أن فهمته؛ ولعلي بعد عقود أتساءل لماذا لم أسال أمي عن هذا الحمل الذي حيت يتم توزيعه ينشال؟

ومع التقدم بالعمر، صار للمعنى بلاغة أخرى تتجاوز الحِمل المادي الى الآخر المعنويّ، وهكذا في تأمل حالنا في غزة، فنحن إزاء الحِملين معاً؛ فمن يغيث الغزيين بأكبر قدر من السرعة في حياتنا المعاصرة؟ من يغيثهم مادياً ونفسياً؟ مَن؟

في تأمل التاريخ عظة أكثر من أية عظة أخرى؛ فلا استدامة للشرور ولا لصنّاعها؛ فليس الأمر متعلقاً بما وراء، ولا فلسفة كثيرة أرضية وسماوية، بل هي سنة الكون؛ فالخير جلّاب للخير، والزرع بالزرع يُعرف، فاليد التي تمدّ للآخرين ستجد من يمدّ لها أياديَ لا يداً واحدة.

من ناحية قانونية، ومن ناحية العلاقات الدولية سلماً وحرباً، فإن الدول الكبيرة وغيرها تعرف ذنوبها، وتعرف ما يمكن أن «تكفّره» عن نفسها؛ فالفرصة كما كانت شراً سانحة لدعم الاحتلال في قتلنا بل إبادتنا، هي نفسها سانحة خيراً لإغاثتنا، وببساطة فإن الذي آذانا في أرواحنا ودمنا وراحتنا وممتلكاتنا، عليه تعويضنا، فكل منا نحتاجه هنا أرخص كثيراً من السلاح غير التقليدي.

أمام غول الشتاء الذي لا يرحم والذي بدأ مبكراً هذا العام، لعل الشهامة الإنسانية تغيث الملهوفين، فالحاجة الآن واضحة للنازحين المحتاجين «كرفانات» لا مجرد خيمة لا أرضها تقي اللاجئين من برد الأرض شتاءً ولا سماؤها تقيهم المطر.

تعب الغزيون من ارتياد البحر، وبحور الحياة، وبحارها وأبحرها، وكل ما يشير للبحر من حروف، وهم يودون فقط بحرهم الكريم الجميل، ولكن حتى يكون بحراً لا بد أن يكون براً عامراً معمراً.

سنبحث عن المبدع الإنسان الفنان الذي التقط الصورة الملهمة، وربما يأتي يوماً نستمع لامرأة البحر، على ألا يكون طفلها قد كبر كثيراً، لأن ذلك سيعني طول زمان الألم والانتظار.

التقط المصور الغزيّ من خلال ثانية عوالمَ البشر والكون. تُرى ماذا كان داخل الأم من حديث؟ أية مونولوجات للحاضر والماضي والمستقبل؟